logo


 

 

 

 

 

أ.د. أكرم هواس يكتب للنخبة : عن اغتراب القومي

 

     مع انتشار العولمة بهذه الوتيرة السريعة منذ بدايات التسعينات من القرن الماضي، كان من الواضح جدًا أن هذه العملية (العولمة) إنما تقوم بتفكيك الأسس الاجتماعية التقليدية المُتبناه في إطار مفهوم ما بعد الدولة القومية. على الرغم من أن الجانب الاقتصادي للعولمة بدا وكأنما يرتكز على شبكات أكثر تنظيمًا، لكن في المقابل فإن مفاهيم وًتصورات مثل التجزئة والتقسيم ومصطلح "عالم واحد/عالم مقسم" أظهرت عدم وجود تجانس ما بين البُنى المجتمعية السياسية وتلك الثقافية على مستوى العالم، وبالطبع كانت العواقب أشد في المجتمعات التقليدية والأقل تمدنًا عن غيرها. على مر العقود الماضية، ظهرت كوكبة جديدة من الأفكار السياسية والثقافية محفزة على الكثير من الأسئلة فيما يتعلق بروح القومية ومتحدية الوسائل القديمة (الكلاسيكية) للمنظومات المجتمعية. فقد فقدت السيادة على المستويين الجغرافي والسياسي قيمها الإدراكية ولم تعد محور التفكير، كما لم تعد أسس ( الروابط المجتمعية convergence-bonded ) مقنعة لهذا القلق الوجودي (الأنطولوجي) المستعر في عقول الأفراد والجماعات. على عكس الحركات الاجتماعية والأحزاب والمؤسسات السياسية التاريخية، فهذه التركيبة الجديدة من الوحدات الاجتماعية والثقافية بدت مصاحبةً لمعايير تتجاوز بطرق كثيرة المؤسسات السياسية والثقافية القائمة وبالنظر إلى بعض المفاهيم كمفهوم القومية سنجد أن روح نموذج النعجة دولبي تبدو اكثر تعبيراً بسبب عدم تناسق واضح ما بين الشكل المادي وطبيعة الأداء. بكلام آخر، يبدو أن الروح الجماعية common sense لم تعد تشمل أساسًا للانتماء الاجتماعي وهذا ليس ناتجًا عن انحدار في مستوى الالتزام الفردي فحسب، وإنما –وهو ما يثير السخرية- السبب هو أن كلا من مفهوم الروح الجماعية والالتزام الفردي بهذه الروح الجماعية أصابهما تغيير جذري و في وقت يُفتقر فيه إمكانية ايجاد أسس بديلة للروح الجماعية .كل هذا سيؤدي بالأفراد للسقوط في الهوة عاجزين عن إدراك العلاقات الاجتماعية والتمثيل السائد. في حين نجد أن مناهج حماية حقوق ورفاهية الإنسان في اضمحلال شديد، فان مشاريع مجموعات حماية البيئة التي تهدف الى إنقاذ مستقبل الحياة على الارض، لا تختلف كثيرا عن مشاريع مجموعات مماثلة مثل Me-Too, Neo-Feminism, Veganism and Anti-Speciesism (المجموعات النسوية المتجددة و منظمات تحريم المنتجات الحيوانية و حماية الحشرات و الاجناس و المخلوقات من تجاوز الانسان). في حين أن البنى الكلاسيكية للانشطار و التحزب التي كانت سائدة في فترة ما بعدالحرب الباردة قد تلاشت، فإن الخطاب السياسي و الاجتماعي الغالب في هذه المرحلة الحالية تبدو مبنية على أسس مشوشة من الانانية المركزية و مصاحبة لتجاهل و معاداة الاخر . القيم المثلى في هذه المرحلة لا يبدو أنها توفر أية ارضية لمشروع اجتماعي قابل للديمومة، بل ربما على العكس يبدو ان إزالة التاريخ و الارث الإنساني تشكل اهمية أكبر . في ذات الوقت، مع موجات الهجرة الجديدة عبر الحدود السياسية (65 مليون مهاجر) وفي الفضاء عن طريق التطوع في مستعمرة المريخ 2013 (200,000 شخص حول العالم قدموا طلبات للمشاركة)، كل هذا يمكن أن يُرى على أنه محاولات لفصل العلاقة الارتباطية بين المجتمع وكوكب الأرض وليس سعيًا للأمن أو محاولات لتحقيق ما يسمى بالحلم الأمريكي. من الواضح جدًا أن السفر للمريخ هو طريق ذو اتجاه واحد، أما الهجرة لأوربا والولايات المتحدة تعد غير آمنة ومذلة إلى أقسى حد. و بالمثل فإعادة إحياء النظرة العرقية والاتجاه النيو-ديني (الحماسة الدينية المبالغ فيها) انتهى إلى القضاء على مبدأ التعايش وتغليب/إعادة ظهور وهم تفوق الرجل الأبيض والشعبوية السياسية. أتت هذه النتائج مصحوبة بعواقب وخيمة من العنف والصراعات المجتمعية داخل وخارج حدود الدول. في المجتمعات الأقل تطورًا و بضمنها الشرق الأوسط، تمر صور الجماعات الاجتماعية بعملية الاغتراب (الغرائبية) ؛ وهذا يعني أن الأفراد والمؤسسات على كافة الأصعدة الاجتماعية والثقافية والسياسية يتولد لديهم إحساس عالٍ بالانفصال عن المجتمع، ويمكننا القول أن الصراع والقلق وانعدام الثقة بالنفس أو بالآخرين هي بعض من الأسباب التي تؤدي إلى عدم التجانس والهشاشة في الهيكليات الاجتماعية في الختام، بينما تحدث التغيرات بوتيرة سريعة بفضل تكنولوجيا الاتصالات وغيرها، صار إنتاج نسق/منهج اجتماعي مستقر تحديًا كبيرًا. فنجد أن ما آلت إليه المجتمعات المتمدنة من التشتت يقضي على الاستقرار وأسس التعايش السلمي، بالإضافة إلى ذلك، يؤدي الصعود السياسي للتيار الشعبوي إلى إعادة تأسيس شكل جديد من التفوق/الطبقية مبني على أسس العرق والثروة. في المجتمعات ألأقل تطوراً و خاصة المجتمعات الشرق- اوسطية تواجه الحاجة الى مشروع اجتماعي ربما على شاكلة قومية تحديات جدية، بعضها تمثل حالة اختناق داخلي و بعضها تأتي من ضغوط القوى العولمية الخارجية .

.